لم تدرِ كيف دنا إليها فجأةً
لكنها كانت تبادلهُ النظرْ
في المقعدِ الخشبيِّ وسْطَ حديقةٍ
وكأنّما كان اللقاءُ على قدرْ
جلسا لتنظرَ كلّ عينٍ قصدها
بالرغم ممّا جرّهُ ضعفُ البصرْ
كلٌّ يروقُ له الحبيبُ وسامةً
والحُبّ هزّ الخافقينِ على الأثرْ
إلا إليها لم يصوّبْ نظرةً
حتى تظنّ أمامه جلس القمرْ
لم يلحظا للشيب أي دمامةٍ
وجفاف وجهٍ ساقهُ طول الكبرْ
كانا كأنّ الليل جَنَّ مليكةً
ومليكها في القصر عن كل البشرْ
هو زوجها من نصف قرنٍ، وهْيَ لا
تَتَذكّرُ الزوجَ العطوفَ المزدجَرْ
ما عاد تذكرُ كيف كان قوامه
رجلاً طويلًا ناحل الخصر أغرّْ
كم كانت الدنيا تضيق بصدرها
إن صادفتْ عيناه أنثى في ممرْ
وغدا نجيّاً ليس يعدل حبّهُ
أمٌّ تناصحُ أو شقيقٌ معتبَرْ
فهو العزيز اذا يفارق مجلسًا
وهو الكريمُ المستجابُ إذا حضرْ
ولطالما امتثل الفؤادُ لأمرهِ
إنْ يرضَ يرضَ بما أشار وما أمرْ
ولكم أذاعتْ أنه خِلصٌ لها
وبأنهُ فوقَ الـمواعظ والعِبَرْ
وبأنّ بحر الحب تحت سمائه
صفوٌ وأن كلامه مثل الدُّررْ
حتى إذا مرّ الزمان عليهما
غدر الزمان فكان أقسى من غدرْ
قالت لهُ : إني أراك تخونني
والحلم يعرض لي من الأمر الصورْ
قال الوساوس قد أرتكِ توهّماً
أضغاثَ أحلامٍ وبعضاً من حذَرْ
أنتِ التي قلبي يدقّ لاجلها
والشمسُ أنتِ له وأنتِ له المطرْ
في كل يومٍ كان يلحظ غربةً
حتى كأنّ الروح تسعى للسفرْ
فاذا رأتهُ تأملتْ: من زارنا؟
من هذه العينان ترقبُ كالخفرْ؟
امسى غريباً وجههُ ولسانهُ
وكأنها ليستْ جذوره والثمرْ
ما عاد تذكرُ كم تنعّم قلبُها
في حبّه او كم تعذّبَ وانفطرْ
أو كم تلاطم موجها في موجه
و تحسّستْ سكناهُ فيها والوطرْ
ما عاد تذكر يوم كان مكانَها
وزمانَها وعبيرَ همْسات السَهرْ
ما عاد تذكر حلوةً أو مُرّةً
ما أجمل النسيان يجبر ما انكسر
خمسون عاماً من زواجٍ مُتعَبٍ
لكنّها الآن السلامُ المنتظرْ
يأتي إليها كل يومٍ زائراً
والطبّ يعجزُ بالبيان المختصرْ
هيَ ليس تذكر اهلها او صحبها
بل ليس تذكر اي شيء او خبرْ
لكنها تروي لهم احلامها
عن فارسٍ كلماته مثل الدُررْ
ويزورها في كل يومٍ مرةً
وتراهُ في كل الزوايا والحُجَرْ
انفاسها كالموج تلطم موجَهُ
حتى تحسّ القشعريرة والخَدَرْ
وترى جدائل طفلةٍ في كفّهِ
يتأهّـبانِ لمـدّها مدّ البصـرْ